الاعتراف بفلسطين- محدودية التأثير وتجاهل العقبات الإسرائيلية

إثر انتهاء فعاليات مؤتمر حل الدولتين في نيويورك، وبالتزامن مع الإعلان الصادر من وزير الخارجية الفرنسي بخصوص دعوة دولية للاعتراف بدولة فلسطين، تصاعدت وتيرة النقاشات حول أهمية الاعترافات السابقة والمقبلة، سواء تلك المتوقعة أو المحتملة.
وقد تزامن هذا الحراك مع مساعٍ حثيثة تبذلها فرنسا لتشكيل رأي عام دولي واسع النطاق، يهدف إلى تغيير الوضع الراهن في فلسطين. هذا الجهد يمثل توجهاً بديلاً للتعامل مع القضية الفلسطينية، بعيداً عن النهج الذي تتبعه الإدارة الأميركية الحالية.
مع الاعتراف بأهمية الجهود الدولية المبذولة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وما تمثله من مواجهة لمحاولات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لطمس القضية الفلسطينية برمتها، إلا أن هذا التحرك يبقى محدود الأثر على أرض الواقع، وذلك نتيجة لعدة أوجه من القصور:
عقلية الوصاية
في كل مرة يثار فيها موضوع ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، تسارع الدول الداعمة لهذا الطرح إلى إرفاقه بسلسلة من الشروط والإجراءات التي يتعين على الفلسطينيين تنفيذها، وتشمل إصلاحات في المجالات الأمنية والإدارية والمالية.
كمثال على ذلك، يمكن الرجوع إلى خطة خارطة الطريق التي طرحت خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وتتبع الشروط التي كان يجب على الفلسطينيين الالتزام بها قبل استحقاق الدولة، وفقًا للخطة التي كان من المفترض أن تنتهي بإقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005. لقد التزمت السلطة الفلسطينية آنذاك بجميع التزاماتها، في حين لم تفِ إسرائيل بأي من التزاماتها.
وبعد مرور عقدين من الزمن على تلك المحاولة، نجد أن العديد من الأطراف في المجتمع الدولي تتبنى نفس المسار، مطالبة الفلسطينيين بإجراء إصلاحات شاملة تحت إشراف خارجي، تشمل الجوانب الأمنية والمالية والسياسية والإدارية والثقافية.
هذه المطالب تمثل في جوهرها مجموعة من الخطوات الهادفة إلى تهيئة بيئة فلسطينية غير معادية للاحتلال بأي شكل من الأشكال. إنها إعادة إنتاج لسياسات الوصاية القائمة على نظرة استعلائية، لا تتعامل مع الدولة الفلسطينية كجزء من حق الفلسطينيين غير المشروط في تقرير مصيرهم، بل كهدف قابل للتحقيق.
إن أي مقترح يطالب الفلسطينيين بالتخلي عن كافة أشكال النضال، بغض النظر عن طبيعة هذا النضال، ويدفعهم نحو إعادة بناء المجتمع الفلسطيني ليصبح مجتمعاً تابعاً ومرهقاً اقتصادياً، ومنفصلاً عن تاريخه وثقافته وسياسته، ومتكيفاً مع جميع ممارسات إسرائيل، تحت عنوان فضفاض مثل "الإصلاح"، يعني تجريد الفلسطينيين من القدرة على العمل من أجل حقوقهم. إذ لا يمكن توقع التزام إسرائيل بحل الدولتين، بالنظر إلى تصريحاتها وأفعالها، وإزاء فقدان الحراك الدولي لأدوات الضغط على إسرائيل.
التوظيف التكتيكي
من بين أوجه القصور الأخرى في هذا المسعى، أنه يتم استخدامه تكتيكياً من قبل بعض الداعمين له، كأداة للضغط على إسرائيل في سياق الحرب على قطاع غزة. مثال على ذلك إعلان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن لندن ستعترف بدولة فلسطين إذا لم توقف إسرائيل حربها على قطاع غزة، ولم توقف عمليات الضم في الضفة الغربية، ولم تلتزم بمسار سياسي لحل الدولتين. هذا الإعلان يحمل في طياته إشكاليتين:
- الأولى: إشكالية أخلاقية تتمثل في التعامل مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية كمسألة قابلة للمساومة مع الإسرائيليين. الأصل أن هذه المسألة ليست محل مساومة، ولا ينبغي استخدامها كأداة ظرفية لتعديل سلوك إسرائيل.
في حين قد يبدو هذا الإعلان دعماً لمطلب الفلسطينيين بإنهاء الحرب ظاهرياً، إلا أنه يكشف في جوهره عن نجاح إسرائيل في تخفيض سقف مطالب أطراف دولية مؤثرة، من مستوى العمل من أجل تحقيق دولة فلسطينية بغض النظر عن سلوك إسرائيل، إلى مجرد استحضار فكرة الدولة لتوظيفها في محاولة فاشلة لردع الاعتداءات الإسرائيلية.
- الثانية: إشكالية سياسية تتمثل في الاعتقاد بإمكانية الضغط على إسرائيل بهذه الطريقة، وتجاهل الأدوات الدبلوماسية التقليدية في الاحتجاج والضغط، بالإضافة إلى الأدوات الأخرى المتاحة على صعيد مراجعة التعاون الاقتصادي والأمني والعسكري.
في ظل استمرار بعض الدول في الحفاظ على مستوى التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل، واستمرار أوجه التعاون الأخرى، يبدو التلويح بالاعتراف بدولة فلسطينية محاولة باهتة للتخلص من العبء الأخلاقي الملقى على عاتق تلك الدول التي تحالفت مع إسرائيل على مدى عقود ولا تزال.
تجاهل غير مبرر
لا يمكن وضع التحرك الدولي من أجل الاعتراف بدولة فلسطين في سلة واحدة. فهناك دول اعترفت بالفعل، وأخرى أعلنت نيتها الاعتراف دون شروط، في حين أن دولاً أخرى ربطت الاعتراف بتقييم مستقبلي يعتمد على توقعاتها من الطرفين، وخاصة من الفلسطينيين، بينما تحاول دول أخرى استخدامه كأداة للضغط على الاحتلال.
التحرك الذي يستدعي قراءة نقدية هو ذلك الذي بادرت به بعض الدول الغربية حالياً، مثل فرنسا وبريطانيا، وذلك لتقييم موقعها في السياسة الدولية أولاً، ولعلاقاتها مع إسرائيل ثانياً، ولامتلاكها أدوات لتحويل الاعتراف من خطوة سياسية إلى وقائع جديدة على الأرض.
بالإضافة إلى الإشكاليات المذكورة آنفاً، هناك تعامل متساهل للغاية مع السلوك الإسرائيلي السياسي والميداني. فالتهديد بالاعتراف بدولة فلسطينية في المستقبل، واعتباره خطوة كافية لوقف مخططات إسرائيل لتقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية، يتجاهل حقيقة لخّصها وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي قال تعليقاً على الدعوة الجماعية للاعتراف بدولة فلسطين: "من المهم ألا يكون هناك شيء يعترفون به حين يحين الوقت".
سياسياً، لم يعد من المقبول اختزال العقبات الإسرائيلية أمام حل الدولتين في شخصيتي بن غفير وسموتريتش. هناك تبسيط مخل من قبل الغرب لفكرة إعفاء دولة إسرائيل من المسؤولية عن التطرف وانتهاك حقوق الفلسطينيين، وإلصاق ذلك بشخصين فقط.
وهذا بالمناسبة ما فعلته الإدارة الأميركية الديمقراطية السابقة، حين فرضت عقوبات على بعض الجماعات الاستيطانية، دون تحميل إسرائيل وزر الاستيطان برمته.
أغلبية أعضاء الكنيست صوتوا ضد إقامة دولة فلسطينية خلال يوليو/ تموز 2024، بمن فيهم أعضاء من خارج الائتلاف، وذلك بعد تصويت الكنيست في فبراير/ شباط من العام نفسه بأغلبية ساحقة وصلت إلى 99 عضواً، دعماً للحكومة في رفضها خطوات الاعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطين. وقبل أسبوعين تقريباً، أي في يوليو/ تموز 2025، صوت 71 عضواً في الكنيست لصالح ضم الضفة الغربية.
هذا المسعى الدولي المتنامي للاعتراف بدولة فلسطين، يجب ألا يكتفي بالدعوة إلى حل الدولتين، وهي دعوة تتحرك في المساحات الآمنة، ولا تشير إلى العقبة الأساسية المتمثلة في عدم وجود طرف إسرائيلي ذي ثقل حقيقي مستعد لحل الدولتين، وتتجاهل أن أكبر حركتين فلسطينيتين من الناحية الجماهيرية ليست لديهما مشكلة مع هذا الحل.
فحركة فتح تصر عليه منذ أوسلو 1993، وحركة حماس قد أبدت في وثيقتها السياسية الجديدة 2017 وفي البند رقم 20 اعتبارها إقامة دولة على حدود الرابع من يونيو/ حزيران كاملة السيادة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين، صيغة توافقية مشتركة.
القفز عن هذه الحقائق السياسية، نحو طلب خطوات "إصلاحية" في الجانب الإداري والأمني والمالي من السلطة الفلسطينية، هو هروب من المواجهة الحقيقية مع إسرائيل بتركيبتها السياسية الحالية، وهي حقائق لا تتمثل في التصويت داخل الكنيست فحسب، وإنما في تصريحات عديدة يتعذر سردها لكثرتها والصادرة عن شخصيات رسمية وغير رسمية إسرائيلية، تدعو إلى مزيد من الاستيطان في الضفة، والتهويد الكامل للقدس، وإعادة الاستيطان في القطاع وتهجير الفلسطينيين.
بالتزامن مع هذا السلوك السياسي الإسرائيلي الرافض تداول فكرة الدولة الفلسطينية والداعي لتقويض كل مقوماتها، تقوم إسرائيل عملياً بمحاربة الوجود الفلسطيني بشتى السبل، وأكثرها وضوحاً وبطشاً، حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، والتي تهدف إلى تهجير الفلسطينيين والاستيطان في القطاع.
وما التعنت الإسرائيلي الحالي في الملف التفاوضي إلا شراء للمزيد من الوقت كي لا يترك لأهل غزة أي عامل للصمود، لتصبح الدعوات الدبلوماسية والمؤتمرات والخطابات بشأن الدولة الفلسطينية سلوكاً متواضعاً جداً أمام تجريف الدولة وفكرتها على يد الاحتلال.
سابقاً لحرب الإبادة في القطاع وبالتوازي معها، كانت إسرائيل تبني المزيد من المستوطنات، وتهود العديد من الأماكن في القدس والخليل ونابلس، وتشيد الطرق الخاصة بالمستوطنين.
بيد أنها في الآونة الأخيرة بدأت بخطوات أكثر اتساعاً وتسارعاً نحو إعدام مقومات الدولة، بمشاريع استيطانية ضخمة تم الإعلان عنها خلال مايو/ أيار 2025، وتشمل بناء 22 مستوطنة جديدة في جنين والقدس ورام الله ونابلس والخليل وسلفيت، وهو مد استيطاني سيغير ملامح الضفة الغربية.
يترافق مع هذا التمدد الاستيطاني، اعتداءات المستوطنين أفراداً وجماعات، وبحماية الجيش الإسرائيلي، إضافة إلى تقييد حركة الفلسطينيين، ومنع حركة البناء والزراعة في مناطق (ج)، وتوسع التقييدات إلى مناطق (ب)، وتقليص صلاحيات السلطة الفلسطينية، وإرهاق المجتمع الفلسطيني مالياً. وهذا كله يتماشى مع مخططات إسرائيل الحالية، ليس فقط لتقويض حل الدولتين، بل لتقليص الوجود الفلسطيني على أضيق بقعة جغرافية ممكنة.
بناءً على ما تقدم، فإن استمرار التحرك الدولي من أجل الدولة الفلسطينية أمر ضروري. بيد أن استمراره بنفس الأدوات غير الفعالة، وبنفس المنطق الذي يوظف الاعتراف تكتيكياً، ومن نفس الزاوية التي لا تتفاعل بشكل حاسم مع خطاب إسرائيل وأفعالها، فإن الأخيرة ماضية في مسعاها، ومستعدة لتحمل هذا الإزعاج على المستوى الدولي.
فعندما تكون دولة مثل فرنسا تقود جهود الاعتراف بدولة فلسطين، وفي الوقت نفسه تمد إسرائيل بأسباب القوة، من أسلحة وذخائر ومعدات وبشكل منتظم منذ بداية الحرب، وفقاً لتقرير صادر عن عشر منظمات حقوقية في يونيو/ حزيران 2025، فإنه يصبح بإمكان إسرائيل ابتلاع هذه الجهود.